استجبت للنداء..
الأرض تسيل دماً..تعال سريعاً..
ضغطت على زر التلفاز مسدلاً ظلمة على المظاهرة التي يعرضها و احتفظت ذاكرتي بمشهد أخير..علم يحترق..و علم يخفق..
خرجت من المنزل إلى سيارتي و إحساس في قدمي أنها تدوس هذه الأرض إذلالاً لها ، إحساس قوي حقاً لم أستطع السيطرة عليه فالغضب داخلي كان يزيده تأججاً و ذلك المشهد المحفور في ذهني يلقي حطب الغضب فيه.
انطلقت بالسيارة مخترقاً ضباب المدينة الأوروبية الباردة..يدي قابضتان على عجلة القيادة و ذهني مشغول بالمصيبة الكبرى تلك التي شاهدتها عبر التلفاز.
* * *
أستاذ جاك..لماذا رفضتم نشر بحثي في مجلة الجامعة رغم أنه الأفضل هذا الشهر..؟!
عزيزي..نحن قبل كل شيء أصدقاء..و أنا حريص عليك..لا تستمر مع تلك الجمعية التي تهتم بالشئون العربية في الغرب..اهتم بعملك فقط
فهمت..تدخلات حكومية..أو..صهيونية
مازالت أصولك العربية تهددك..
كان علي أن أعرف منذ قدومي إلى أوروبا و اصطدامي الأول بحريتها الزائفة أن الحياة فيها لن تكون سهلة على الإطلاق.لولا نجاحي في تخصصي لما استمريت في هذه البلاد البعيدة. و رغم أن هذا الحوار دار منذ سنين طويلة..إلا أن أصداءه تتردد داخلي كلما شاهدت بلادي عبر القنوات الفضائية.
* * *
الأرض تسيل دماً..تعال سريعاً..
رغم غرابة النداء.. إلا أنه لم يثرني في البداية ، فقد كانت مصيبتي أكبر من أي مصيبة يمكن أن تهز هذه المدينة..و انشغالي بالتفكير جعلني أتوقف كثيراً في الطريق..كثيراً ما خيل لي مظاهرة تسد الطريق أمامي..فأضغط كابح السيارة..و يتوقف كل شيء..قلبي و تفكيري..و أظل ساكناً حتى ترتخي عضلاتي و أواصل انطلاقي ، و كنت أرى النداء لا يعدو نوعاً من المبالغة أو التشبيه المجازي.
وصلت إلى مقصدي..حيث الحقيقة..الجهة الجنوبية من حي الفقراء..و على بعد خمسمائة متر من المساكن..مقابر المسلمين.
مد حول المقابر شريط أمني..انتبه…أحذر..و أناس من أهل المدينة خارج النطاق المحظور تعلو همهماتهم..و نظرات القلق و الترقب تكسو عيونهم..عمل إرهابي..جثث المسلمين استيقظت لتسلب أرواحهم.
عرفت نفسي لرجال الأمن فسمحوا لي بالمرور و قابلني رئيس الشرطة و الذي أعرفه جيداً بحكم عملي في الطب الشرعي..فبادرته بالسؤال..الأرض تسيل دماً..؟!..أرخى الرجل شفته السفلى و ازدادت ملامح وجهه جدية و قسوة لقد أحضرنا مجموعة من علماء الجيولوجيا و الطب الشرعي لتحديد سبب هذه الظاهرة..و الآن تفضل....تقدمت..فإذا به يناديني..يداك تنزفان....نظرت لهما فكانا يقطران دماً..و فجأة و جدت بقعاً من الدم أسفل سروالي..ساقاي تنزفان أيضاً حتى صارتا لا تقويان على حملي..و سقطت..و أُسدلت ظلمة على عيني إلا أن ذاكرتي ضمت مشهداً آخر..نوافير دم من القبور..و أصوات مظاهرة تسير في الخارج..و طيور جارحة تحلق فوق جسدي..
و غرقت في غيبوبتي لا أرى فيها سوى دمي يسيل يرسم على الأرض خريطة لبلادي البعيدة و صقور تشرب منه..فإذا أجزاء منه تختفي..لكن قلبي ظل يضخ دماءاً جديدة..حتى انطلق طائر مشوه الملامح محاولاً رسم ابتسامة كاريكاتيرية..يدق قلبي بمنقاره..ليقتله..فأفقت..
نجحنا..الصدمة الكهربائية أنقذته....نقلوني إلى غرفتي بالمشفى..و ظللت تحت الملاحظة الطبية أسبوعاً كاملاً ممنوع عني كل ما يمكن أن يستثير غضبي ، منفصلاً عن العالم..غير مسموح لي بمشاهدة القنوات الإخبارية..حتى الجرائد لا يصلني منها سوى الفني أو الخاصة بالأزياء..لكن ذلك لم يحفظ لي هدوء النفس..إنما شعرت أنني أمام محاولة جديدة لتغييب العقل..أو أمام رسم كاريكاتيري جديد كوجه الطائر المشوه الذي أراد قتل قلبي ، كأنني وسط عالم يحاول إخفاء صراخ الآخرين بضحكاتهم..لكن فور خروجي وجدت الشوارع ترفض الضحك و صرخات الرفض تعلو كل شيء..و نظرت للسماء فوجدت الطيور الجارحة اختفت..و فتحت خريطة العالم..فإذا ببلادي مازالت صامدة رغم تشوش صورتها.
علمت فيما بعد أن المقـابر استـحالـت إلى بحـيرة دمـاء..تـتسع يـوماً بعد يـوم..و استغلـتها الحكــومة بتحويــلها
مزاراً سياحياً، و تغير حال حي الفقراء المجاور ، عاشوا على الدماء و صاروا أغنياء.
في الشتاء تتجمد البحيرة..و تقام مسابقات التزحلق على الدماء الجليدية..بينما أمر أنا كل ليلة مكبل الأيدي في جيوب سروالي..خانقاً رقبتي بكوفيتي..ألقي نظرة سقيمة على البحيرة..و أمضي إلى رجعة.